هانيـــــة عَســـوَد
يعتبر ناجي العلي أحد الرموز
الفلسطينية التي عاشت وناضلت وأبدعت في العصر الذهبي للقضية الفلسطنية ومنظمة
التحرير. "العصر الذهبي" على
الأقل من وجهة نظري وبالعلاقة مع المراحل المختلفة التي عايشتها خلال حياتي وتحديداً
ما بعد بدايات تشكل وعيي وفهمي للواقع الفلسطيني والذي بإعتقادي، كما العديد من أبناء
جيلي الفلسطيينين، إبتدأ مبكراً. وناجي
العلي من دون شك، كان أحد الرموز الحقيقية والأساسية التي ساهمت في تشكيل وعيي
الإنساني والسياسي تماماً كما الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم (حتى أواخر سنوات من
حياته على الأقل؛ نجم) ومظفر النواب وغيرهم من العرب الذين تشاركوا بالعديد من
الصفات التي فقدت منذ فترة.
ولعل أهم ما ميّز - وما يزال يميّز - ناجي
(والآخرين) هو خروجه عن النص السائد لمعنى "الرمز" سواءاً السياسي أو
الثقافي. ومن يراجع مسار حياة ناجي العلي
لا يمكن إلا أن يرى وبكل وضوح، بأنه لم يسعى يوماً للشهرة ولم تعمي بصره ولا
بصيرته الأضواء التي كان بإمكانه التمتع بها وإستغلالها كما فعل الكثيرين ممن حوله،
وبأنه عاش ومات مثقفاً عضوياً "منحازاً لمن هم تحت" كما أتى في أحد
رسوماته. وبقي حتى رحيله متناسقاً مع
تاريخه، مرتبطاً بطبقته وبناسه وبقضيته؛ لم يجامل ولم يتواطئ، ولم يتراجع عن كلمته
- الحق - اللاذعه. ذلك لأنه كان يؤمن بأنه وشعبه أصحاب حق مسلوب
وبأن هدفه بالحياة هو إستعاده هذا الحق.
وهذا الإيمان العميق على وجه التحديد هو ما جعل منه رمزاً حقيقياً وصادقاً.
لم يكن ناجي رساماً مبدعاً وصحفياً
متمرساً فقط، وإنما كان أيضاً إنساناً شديد الوعي يحمل موهبة حقيقية على التحليل
السياسي الواقعي والصريح ويتمتع بنظرة مستقبلية ثاقبة تشبه النبؤة. فرسوماته - التي يعتقد أنها أكثر من 30 ألف لوحة - يعتبر الكثير منها، أقوى وأعمق من الآف البيانات والمقالات التي
أنتجها أهم السياسيين والمثقفين الشعراء، إستطاعت أن تخلق أثرأً حقيقياً وعميقاً في ثقافة الشارع الفلسطيني والعربي، حيث
تطور عمله وفنه لتنتقل رسوماته تدريجياً من دور المراقب إلى دور المحفز والمحرض في
العديد من الأوقات وثم إلى دور المبشر بالعديد من الأحداث كان آخرها - بالإضافة
إلى إغتياله - "الإنتفاضة الأولى" والتي إنطلقت بعد خمسة أشهر من
رحيله.
في 22 تموز/يوليو 1987 في أحد شوارع لندن، أطلق شخص مجهول
النار على ناجي العلي فأصابه تحت عينه اليمنى؛ لم تقتل الإصابه ناجي مباشرة ولكنها
أدخلته في غيبوبه لأكثر من شهر إلى أن توفي في 29 آب/أغسطس 1987. خلال هذا الشهر وبعده على مدار أشهر ومن ثم
سنوات، عمّ ضجيج من الإتهامات وخرج الكثير من البيانات قيل حينها أنها مجرد
محاولات لتبرئة كاتبيها من دمه. وبعد
وفاته نعاه الكثيرين، كتّاب ومفكرين وسياسيين وثوار من أنحاء العالم، من اليمن ومن
اليسار، ومن محبيه كما من نقاده وكارهيه.
بالطبع وحيث السياق السياسي، فلقد كان الموساد الإسرائيلي الطرف الأول
المتهم في إغتيال ناجي بالإضافة إلى عدد من الأطراف الأخرى بما فيها بعض الأشخاص
من منظمة التحرير وآخرين من جهات عربية عدة.
وحيث علمت السلطات البريطانية بأن لدى الموساد معلومات حول الإغتيال، حاولت
بشكل جاد للحصول عليها ولكن الموساد الإسرائيلي رفض نقل أية معلومات، الأمر الذي أثار غضب الحكومة البريطانية فقامت
مارغريت تاتشر - رئيسة الوزراء حينذاك - بإغلاق مكتب الموساد في لندن.
"قتله الذئب" كان عنوان الكتاب الذي تناول
سيرة حياة ناجي العلي والتي جاءت على لسان الكاتب شاكر النابلسي ونشرته المؤسسة
العربية للدراسات والنشر في العام 1999. وبرغم
تحفظي على العديد من ما أتى بالكتاب، إلا أنني أتفق مع الكاتب بالعنوان؛
"قتله الذئب" (المقتبسة
من قصة سيدنا يوسف مع إخوته) وذلك لقناعتي بأن من إغتال ناجي ليس فقط من
أطلق رصاصة "كاتم الصوت" ولا مرسليه المباشرين. فحقيقة عدم إثبات الإتهام على أي جهة أو شخص حتى يومنا هذا، هي
حقيقة وإثبات كافي بأن من إغتال ناجي لم يكن شخصاً واحداً ولا جهة واحدة، وإنما
ثلة من الجهات (أو القبائل) والتي في الغالب ما يفصلها الكثير من الخلافات
والإختلافات، ولكن على ما يبدو، فإن ناجي هو من جمعهم. أو بالأحرى، غضبهم وعارهم أمام ما خطته ريشته،
وغصتهم من سخرية حنظلته هو ما جمعهم - وإن لم يكن في "يد واحدة" فبالتأكيد
على "عزيمة رجل واحد" - للتخلص منه؛ سواءاً أصحاب العلاقة المباشرة أو جميع
الذين تواطئوا وتهاونوا وسكتوا على إغتياله ومغتاليه.
ما زلت - وأستطيع أن أجزم بأن هناك
الكثيرين مثلي - أصاب بكثير من مشاعر الدهشة والفخر وتجتاحني القشعريرة في كل مرة
أرى فيها أحد كاريكاتورات ناجي العلي، تلك التي أنتِج أحدثها قبل 28 عاماً، كونها ما
زالت قادرة حتى يومنا هذا على أن تعكس وتصف أغلب مشاهد الواقع الفلسطيني بشكل خاص
والعربي والعالمي بشكل عام. هذه الحقيقة
لا بد وأن وقعها ما يزال يترك مراراً بطعم الحنظل في حياة وأيام مغتاليه أو على
الأقل من بقي منهم على قيد الحياة لأنه ما زال يذكرهم بتميّز ناجي؛ يذكرهم بناجي
الرمز وناجي الإنسان غير قابل للكسر والبيع والشراء. فكل هذا هو ما أدى به لأن يقضي فترات من حياته
داخل جدران السجون ونوّع من أعدائه ليشملوا كافة الطوائف والخلفيات والمستويات وهو
سبب تكاتف القبائل لإغتياله والسبب أيضاً في أنه دفن في لندن رغم وصيته بأن يدفن في مخيم عين الحلوة بجانب والده.
ولد ناجي العلي - الذي لم يعرف تاريخ ميلاده المحدد في العام 1937 في قرية "الشجرة" الواقعة بين
طبريا والناصرة في فلسطين المحتلة.
هاجر مع أهله عام 1948 إلى جنوب لبنان وعاش في مخيم "عين
الحلوة." إعتقلته قوات الإحتلال
الإسرائيلية وهو صبي لنشاطاته المعادية للإحتلال فقضى أغلب وقته داخل الزنزانة
يرسم على جدرانها وكذلك على جدران السجون اللبنانية حين إعتقله الجيش اللبناني أكثر
من مرة. تكرار إعتقاله أعاق ناجي عن إتمام
تعليمه، مما إضطره لاحقاً لدراسة مكانيكا السيارات والسفر للسعودية للعمل
كميكانيكي قبل عودته إلى لبنان وعمله كمدرس في المدرسة الشيعية الجعفرية
جنوب صور وبمساعدة الإمام موسى الصدر لمدة
ثلاث سنوات.
كان الصحفي والأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني هو أول من ساعده بنشر
أولى لوحاته التي حملت خيمة تعلو قمتها يد تلوّح حيث نشرت في مجلة
"الحرية" العدد 88 في 25 سبتمبر 1961.
في سنة 1963 سافر ناجي إلى الكويت ليعمل محرراً ورساماً ومخرجاً صحفياً،
فعمل في "الطليعة" الكويتية (لسان القوميين العرب) والتي كانت مدرسته الأولى ومنبره الأسبوعي لمخاطبة
قرائه، ثم في مجلة "السياسة" الكويتية، ثم "السفير"
اللبنانية، وبعدها "القبس" الكويتية، و "القبس الدولية." تزوج ناجي من وداد صالح نصر وأنجب منها أربعة
أولاد. أعاد إبنه خالد إنتاج رسوماته في
عدة كتب جمعها من مصادر كثيرة، وتم ترجمة العديد منها إلى الإنجليزية والفرنسية
ولغات أخرى.
نشرت هذه المقالة في مجلة "فلسطين الشباب" العدد 104
http://filistinashabab.com/media/k2/attachments/FA104.pdf