الثلاثاء، 4 أغسطس 2015

في الذكرى 25 لإطلاق رصاصة "كاتم الصوت" ..

هانيـــــة عَســـوَد


يعتبر ناجي العلي أحد الرموز الفلسطينية التي عاشت وناضلت وأبدعت في العصر الذهبي للقضية الفلسطنية ومنظمة التحرير.  "العصر الذهبي" على الأقل من وجهة نظري وبالعلاقة مع المراحل المختلفة التي عايشتها خلال حياتي وتحديداً ما بعد بدايات تشكل وعيي وفهمي للواقع الفلسطيني والذي بإعتقادي، كما العديد من أبناء جيلي الفلسطيينين، إبتدأ مبكراً.  وناجي العلي من دون شك، كان أحد الرموز الحقيقية والأساسية التي ساهمت في تشكيل وعيي الإنساني والسياسي تماماً كما الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم (حتى أواخر سنوات من حياته على الأقل؛ نجم) ومظفر النواب وغيرهم من العرب الذين تشاركوا بالعديد من الصفات التي فقدت منذ فترة.  

ولعل أهم ما ميّز - وما يزال يميّز - ناجي (والآخرين) هو خروجه عن النص السائد لمعنى "الرمز" سواءاً السياسي أو الثقافي.  ومن يراجع مسار حياة ناجي العلي لا يمكن إلا أن يرى وبكل وضوح، بأنه لم يسعى يوماً للشهرة ولم تعمي بصره ولا بصيرته الأضواء التي كان بإمكانه التمتع بها وإستغلالها كما فعل الكثيرين ممن حوله، وبأنه عاش ومات مثقفاً عضوياً "منحازاً لمن هم تحت" كما أتى في أحد رسوماته.  وبقي حتى رحيله متناسقاً مع تاريخه، مرتبطاً بطبقته وبناسه وبقضيته؛ لم يجامل ولم يتواطئ، ولم يتراجع عن كلمته - الحق -  اللاذعه.  ذلك لأنه كان يؤمن بأنه وشعبه أصحاب حق مسلوب وبأن هدفه بالحياة هو إستعاده هذا الحق.  وهذا الإيمان العميق على وجه التحديد هو ما جعل منه رمزاً حقيقياً وصادقاً. 

لم يكن ناجي رساماً مبدعاً وصحفياً متمرساً فقط، وإنما كان أيضاً إنساناً شديد الوعي يحمل موهبة حقيقية على التحليل السياسي الواقعي والصريح ويتمتع بنظرة مستقبلية ثاقبة تشبه النبؤة.  فرسوماته - التي يعتقد أنها أكثر من 30 ألف لوحة - يعتبر الكثير منها، أقوى وأعمق من الآف البيانات والمقالات التي أنتجها أهم السياسيين والمثقفين الشعراء، إستطاعت أن تخلق أثرأً حقيقياً وعميقاً في ثقافة الشارع الفلسطيني والعربي، حيث تطور عمله وفنه لتنتقل رسوماته تدريجياً من دور المراقب إلى دور المحفز والمحرض في العديد من الأوقات وثم إلى دور المبشر بالعديد من الأحداث كان آخرها - بالإضافة إلى إغتياله - "الإنتفاضة الأولى" والتي إنطلقت بعد خمسة أشهر من رحيله. 

في 22 تموز/يوليو 1987 في أحد شوارع لندن، أطلق شخص مجهول النار على ناجي العلي فأصابه تحت عينه اليمنى؛ لم تقتل الإصابه ناجي مباشرة ولكنها أدخلته في غيبوبه لأكثر من شهر إلى أن توفي في 29 آب/أغسطس 1987.  خلال هذا الشهر وبعده على مدار أشهر ومن ثم سنوات، عمّ ضجيج من الإتهامات وخرج الكثير من البيانات قيل حينها أنها مجرد محاولات لتبرئة كاتبيها من دمه.  وبعد وفاته نعاه الكثيرين، كتّاب ومفكرين وسياسيين وثوار من أنحاء العالم، من اليمن ومن اليسار، ومن محبيه كما من نقاده وكارهيه.  بالطبع وحيث السياق السياسي، فلقد كان الموساد الإسرائيلي الطرف الأول المتهم في إغتيال ناجي بالإضافة إلى عدد من الأطراف الأخرى بما فيها بعض الأشخاص من منظمة التحرير وآخرين من جهات عربية عدة.  وحيث علمت السلطات البريطانية بأن لدى الموساد معلومات حول الإغتيال، حاولت بشكل جاد للحصول عليها ولكن الموساد الإسرائيلي رفض نقل أية معلومات، الأمر الذي أثار غضب الحكومة البريطانية فقامت مارغريت تاتشر - رئيسة الوزراء حينذاك - بإغلاق مكتب الموساد في لندن.  

"قتله الذئب" كان عنوان الكتاب الذي تناول سيرة حياة ناجي العلي والتي جاءت على لسان الكاتب شاكر النابلسي ونشرته المؤسسة العربية للدراسات والنشر في العام 1999.  وبرغم تحفظي على العديد من ما أتى بالكتاب، إلا أنني أتفق مع الكاتب بالعنوان؛ "قتله الذئب" (المقتبسة من قصة سيدنا يوسف مع إخوته) وذلك لقناعتي بأن من إغتال ناجي ليس فقط من أطلق رصاصة "كاتم الصوت" ولا مرسليه المباشرين.  فحقيقة عدم إثبات الإتهام على أي جهة أو شخص حتى يومنا هذا، هي حقيقة وإثبات كافي بأن من إغتال ناجي لم يكن شخصاً واحداً ولا جهة واحدة، وإنما ثلة من الجهات (أو القبائل) والتي في الغالب ما يفصلها الكثير من الخلافات والإختلافات، ولكن على ما يبدو، فإن ناجي هو من جمعهم.  أو بالأحرى، غضبهم وعارهم أمام ما خطته ريشته، وغصتهم من سخرية حنظلته هو ما جمعهم - وإن لم يكن في "يد واحدة" فبالتأكيد على "عزيمة رجل واحد" - للتخلص منه؛ سواءاً أصحاب العلاقة المباشرة أو جميع الذين تواطئوا وتهاونوا وسكتوا على إغتياله ومغتاليه.

ما زلت - وأستطيع أن أجزم بأن هناك الكثيرين مثلي - أصاب بكثير من مشاعر الدهشة والفخر وتجتاحني القشعريرة في كل مرة أرى فيها أحد كاريكاتورات ناجي العلي، تلك التي أنتِج أحدثها قبل 28 عاماً، كونها ما زالت قادرة حتى يومنا هذا على أن تعكس وتصف أغلب مشاهد الواقع الفلسطيني بشكل خاص والعربي والعالمي بشكل عام.  هذه الحقيقة لا بد وأن وقعها ما يزال يترك مراراً بطعم الحنظل في حياة وأيام مغتاليه أو على الأقل من بقي منهم على قيد الحياة لأنه ما زال يذكرهم بتميّز ناجي؛ يذكرهم بناجي الرمز وناجي الإنسان غير قابل للكسر والبيع والشراء.  فكل هذا هو ما أدى به لأن يقضي فترات من حياته داخل جدران السجون ونوّع من أعدائه ليشملوا كافة الطوائف والخلفيات والمستويات وهو سبب تكاتف القبائل لإغتياله والسبب أيضاً في أنه دفن في لندن رغم وصيته بأن يدفن في مخيم عين الحلوة بجانب والده.  

ولد ناجي العلي - الذي لم يعرف تاريخ ميلاده المحدد في العام 1937 في قرية "الشجرة" الواقعة بين  طبريا والناصرة في فلسطين المحتلة.  هاجر مع أهله عام 1948 إلى جنوب لبنان وعاش في مخيم "عين الحلوة."  إعتقلته قوات الإحتلال الإسرائيلية وهو صبي لنشاطاته المعادية للإحتلال فقضى أغلب وقته داخل الزنزانة يرسم على جدرانها وكذلك على جدران السجون اللبنانية حين إعتقله الجيش اللبناني أكثر من مرة.  تكرار إعتقاله أعاق ناجي عن إتمام تعليمه، مما إضطره لاحقاً لدراسة مكانيكا السيارات والسفر للسعودية للعمل كميكانيكي قبل عودته إلى لبنان وعمله كمدرس في المدرسة الشيعية الجعفرية جنوب صور وبمساعدة الإمام موسى الصدر لمدة ثلاث سنوات.

كان الصحفي والأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني هو أول من ساعده بنشر أولى لوحاته التي حملت خيمة تعلو قمتها يد تلوّح حيث نشرت في مجلة "الحرية" العدد 88 في 25 سبتمبر 1961.  في سنة 1963 سافر ناجي إلى الكويت ليعمل محرراً ورساماً ومخرجاً صحفياً، فعمل في "الطليعة" الكويتية (لسان القوميين العرب) والتي كانت مدرسته الأولى ومنبره الأسبوعي لمخاطبة قرائه، ثم في مجلة "السياسة" الكويتية، ثم "السفير" اللبنانية، وبعدها "القبس" الكويتية، و "القبس الدولية."  تزوج ناجي من وداد صالح نصر وأنجب منها أربعة أولاد.  أعاد إبنه خالد إنتاج رسوماته في عدة كتب جمعها من مصادر كثيرة، وتم ترجمة العديد منها إلى الإنجليزية والفرنسية ولغات أخرى. 

نشرت هذه المقالة في مجلة "فلسطين الشباب" العدد 104
 http://filistinashabab.com/media/k2/attachments/FA104.pdf

الثلاثاء، 23 يونيو 2015

تصوير هانيـة عسـود - إسطنبول 2014
لا حائط مبكى لي .. ولن يكون.  

ليس كوني أختلف سياسياً مع ذلك الحائط المتمسمر في مدينتي والممتليء بالكثير من الرسائل المسمومة، برغم إحترامي لفكرة الحائط ثقافياً، كونه ربما جزءاً من تاريخ تركيبة حضارية ما .. ولكن، لأن تجارب السنين علمتني بأن أستثمر آلامي وإحباطاتي بالأمل، وبالسماح لروحي بالتحليق فوق ظهر براقٍ طاف سماء مدينتي ليحلق إلى أعلى نقطة في السماء - كما تقول "الرواية"-، باحثة عن مبررات للبشر ولمسارات الحياة وعن معانٍ وزوايا جديدة لمداركي وأحاسيسي؛ متشوقة لإستكمال رحلة الحياة بكل ما تحويه من بشاعة وجمال وكل ما بينهم.  وليست الأطماع بالتصالح مع الألم مجرد عويلٍ على حواف حائط الزمن، وإنما جزءٌ من رحلة البحث اللامنتهية .. فذلك أحق على روحي وإنسانيتي. 

لا حائط مبكى لي ..
وإن شاءت الظروف عدم التصالح، فليس للقدرِ ذنبٍ، وإنما لإختلاف المبادئ والقيم. 

هانيـــــة عَســـــوَد
حزيران/يونيو 2015

الخميس، 26 مارس 2015

بعداً واحداً فقط!

تصوير هانيــــة عَســوَد - عمان، شتاء ٢٠١٥ 
لِمَ لا تكن الحياة والبشر .. الأفعال ورداتها .. وجهات النظر  والآراء، التفاصيل .. كل التفاصيل حولنا، ذات بُعد واحد وزاوية نظر واحدة فقط؟ 

بهذا الحال، يصبح لـ "الحقيقة" وجه واحد .. لا العشرات.  تسود فوقية الأبيض والأسود  بشكل مطلق.  تزداد كثافة ووضوح الخط الفاصل بين المتناقضات؛ الخير مقابل الشر، الحب مقابل الكره، الصدق مقابل الكذب، الخذلان والخيانة وغيرهم الكثير  مقابل الترجمات المتعددة المترتبة على أبعاد متعددة لوجهات نظر  متقاربة لكنها أيضاً متعددة ويمكن لها أن تتناقض.
بعداً واحداً فقط!  أليس من الممكن أن يكون ذلك الواقع هو الأقدر على منح أرواحنا بعضاً من السلام؟ 
 
هانيـــــة عَســــــــــوَد
مارس ٢٠١٥ 


الأحد، 2 نوفمبر 2014

عن الصحوة ..!

هانيــــة عَســوَد

القدس صارلها أسابيع (بعد سنوات طويلة) عم بينتهك أهلها قبل مقدساتها.  الأطفال بعدهم بيتلاحقوا وهمة راجعين من المدارس وبينقتلو بدم بارد من قطعان المستوطنين ووحوش جيش الإحتلال.  السجناء لسة ممليين السجون، مش بس سجون الإحتلال لأه وسجون السلطة كمان.  بعدها الأراضي بتتصادر، والبيوت بتنهدم، وفش تلّه ولا جبل  بالضفة إلا عليهم مستوطنة بتسحب المية والأراضي من القرى اللي حواليها.  وبعدها بوابات الإحتلال بتسكر وقت ما بدها على مدن وقرى وبتحرم كتير ناس من أهلهم ومزارعهم اللي صارلهم سنوات طويلة بيرعوها وبيسقوها بعرق جبينهم.  التصاريح بيحظى فيها البعض القليل من الناس والناس اللي فعلاً محتاجين، همه اللي أغلب الوقت ممنوعين ومحرومين.  اللاجئين لليوم عايشين في مخيمات جوة البلد وبرّاها .. لسة مخيمات الشاطئ ويِبنه وعايدة وبلاطة فش فيهم شبكات مي ومجاري وشوراع زي الناس، وأهل اليرموك صارلهم أشهر طويلة بيموتو باليوم مية مرة - فش لا خبز ولا مية – ولا حد عارف يأمنلهم أي أمل بالعودة أو الحرية، وبعين الحلوة وشاتيلا والبداوي وغيرهم لسة مية الشتا بتغرّق البيوت والشباب قاعدة من غير شغل والأمل ما عاد إله وجود. 

صارلنا فترة كإننا بنعيش بجمهورية النيام أو المنوَمين .. في أغلبية قررت تدفن راسها بالتراب، وآلافات بتركض لتلَحق على تسديد القروض والديون، والشكليات وفوقهم التقسيمات أكلت ثقافتنا اللي عشنا سنوات بنحارب الإحتلال وبنموت لنحافظ عليها؛ المسيحي صار دخيل والمسلم صار إرهابي، واليسار صاروا تافهين والليبراليين صاروا مطبعين وأهل القرى صاروا متخلفين وأهل المدن صاروا باريسيين والحطة بدل الشال صارت موضه قديمة والجلباب صار هو الثوب الأصيل.  الشباب بينسحبوا من القهاوي علشان بوست عالفيس بوك لأنه يمكن يبقى طرطش حد "كبير" بيشوف حاله فوق الجميع وأي إنتقاد.  الجوزات الحمراء لسة بتمر عن كل اللي واقفين ساعات على الحواجز والجسر.  أغلب القوانين لسة من عهد الإنتداب البريطاني والحكم الأردني والقوانين الجديدة أغلبها جاي ليخدم فئة صغيرة من المجتمع مثل فئة كبار كبار المستثمرين.  وبنص كل هالمصايب، قصة صغيرة برغم عمقها بتقسّم البلد عشر أقسام والكل بينظّر وبيحكي وما حد بيسمع وما ضل إتهامات إلا طلعت ع بعض .. ناس بتلعن الأحزاب والتاريخ والنضال وناس ما عندها أي فكرة عن كل اللي كان واللي صار، وزي ما في ناس كتير مش شاغلهم شي إلا السفر والطلعات والسهرات، في أغلبية مشغوليين بلعن "الكفّار" والسافرات. 

ديون وهبات فلسطين من المجتمع الدولي كسلطة وكمؤسسات المجتمع المدني هي برضه ضريبة بيدفعوها لنتعايش مع الإحتلال، ضريبة للخرس والتواطئ واللي همه جزء من أهداف على الأقل بعض (معروف) من الدول والمؤسسات المانحة، وقليلين اللي لليوم شايفين هالشيء أو بيحكو عنه أو بيحاولوا يفكروا ببدائل حتى لو بشكل تدريجي أو يا ريت على الأقل يكونوا بس حريصين كيف ووين يصرفوه.  وفي مؤتمر الإعمار وعلى طاولات المفاوضات في مئات النفسيات المريضة الفرحانه لوجود وليمة/ولائم جديدة على أنقاض الأطفال والشعب والبلد والثقافة والتاريخ بإعتبارها العوامل الأساسية اللي بتحميلهم مناصبهم ومراكزهم وبتعبي جيوبهم.  وغزة اللي بعدها سجنية لسة لليوم حاملة الوجع على جلد أهلها وولادها وبتحاول تضل رافعه راسها بعد صحوة من رِدة رجعتنا سنوات لورا وبرغم إستمرار الضربات من كل الجبهات من الداخل والخارج والشتات.  غير عن الـ 48، اللي فيها حوالي مليون ونص فلسطيني مش معترف رسمياً فيهم رغم إنه كل يوم بيفتّح دحنون (شقائق النعمان) وريحان ما بينهم.  مفاوضات وإتفاقيات وإجتماعات ومؤتمرات وموازنات، وفود رايحة ووفود جاية ولليوم ما في أي شي واضح على أي المستويات. لا عنّا بقر نحلبه، ولا عيون ميّ نشرب منها ... طيب وآخرتها؟!  قولكم في أمل! وإزا آه ... متى ممكن نرجع نصحى؟!

(كتبت ونشرت في للزاوية الدورية الجديدة "ع بلاطة" في مجلة فلسطين - عدد نوفمبر 2014)

السبت، 13 سبتمبر 2014

ما بعد الأرقام والمقارنات ...

تقلقني الإحصائيات دائماً وتثير لدي الكثير من الشكوك حول مبرراتها وكيفية العمل على إخراجها؛ ويقلقني بالتأكيد، إندفاعنا جميعاً لتعميمها دون فحص كافة الجوانب للتأكد من صحتها أو موضوعيتها أو واقعيتها أو حتى إنسانيتها. 

فمن التفاصيل المهمة التي يتوجب معرفتها وتذكّرها عند مراجعة أو الإطلاع على أية دراسـة إحصائية هو أنّ هذه الإحصائيات تُبنى بشكل أساسي على إفتراضات تخص القائمين عليها وآرائهم ومعاييرهم وتعريفاتهم والتي برأيي وإن كان هذا من حقهم بالتأكيد، إلا أنها لا تعني أن إفتراضاتهم أو تعريفاتهم صحيحة بشكل مطلق أو حتى وجوب إعتناقها والموافقة معها من قبل الجميع.  كما وأنّ أغلب الدراسات القائمة على الإحصائيات تُخرج أرقام وإحصائيات تُعَمَم على كل الناس أو الدول أو الظروف .. إلخ، وبالتالي فهي لا تعكس سوى رأي ووجهة نظر من شارك بها.  وكمحصلة، فإن نتائج أغلب الإحصائيات تبقى مجرد أرقام ونسب نتجت بشكل أساسي عبر الأسلوب البحث "الكمي" والعمليات "الحسابية" ويتم ربطها أو إسنادها على أية معلومات نوعية أو تحليلات علمية أو إرتباطات واقعية قد تؤدي إلى إفراز مثل هذه الأرقام والنسب.  أخيراً، أغلب الدراسات الإحصائية التي تشمل مقارنات بين النسب الناتجة من البحث الإحصائي وآخر يخص مجموعة أو دولة أو .. أخرى، هي سطحية إلا لو إنبنت وإرتبطت بشكل واضح بعدد من الأبعاد الموضوعية الأخرى. 

ما أثار حفيظتي لكتابة هذا المقال هو الخبر الذي نُشر في موقع "الحياة" حول نسبة الأمية في الوطن العربي بناءاً على أحدث دراسة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "أليكسو" (http://alhyat.com/?mod=articles&ID=82886).  مبدئياً لدي عتب "الأصدقاء" على موقع "الحياة" لنشر الخبر كما أتى ولعدم وجود رابط للبحث، ولدي تحفظ كبير على ما أتى في الخبر من نتائج وذلك للأسباب التي وضحتُها في الأعلى بالإضافة إلى ما ستحملة السطور التالية.

عموماً، أنا لا أؤمن بأن "الأمية" بتعريفها العلمي المعروف دولياً (عدم القدرة على الكتابة والقراءة) تعني بالضرورة "عدم الوعي" أو "الجهل."  فهنالك العديد من المتعلمين وأصحاب الشهادات الصغرى والكبرى بمستويات متدنية جداً من الوعي والمعرفة والقناعات الحقيقية والأخلاق ومستوى عالي من الجهل؛ هذا لا يعني بأي شكل أنني أروّج لعدم أهمية القراءة والكتابة أو لعدم العمل على محو "الأمية" في مجتمعاتنا العربية وغيرها حول العالم.  لكن برأيي الشخصي والمهني، هذه الأمور (الوعي والقناعات والأخلاق والقيم والإنتماء وغيرهم) أهم بكثير من الشهادات ومن معرفة القراءة والكتابة فقط.  كما وأن نسبة "الأمية" أو عدد القادرين على الكتابة والقراءة في بلد لا تعكس بالضرورة أفضليته أو العكس، وليست هي الأسباب الأهم لإنسنة الإنسان وقيمته وتطوره أو مستوى نماء أي بلد.  

وبالعودة إلى بعض الإحصائيات التي نقلها الخبر أيضاً، فليس غريباً أن يحظى الصومال بالنسبة الأكبر من عدد المواطنين اللذين لا يعرفون القراءة والكتابة، فما يزال الصومال يعاني من الأوضاع السياسية والإقتصادية الصعبة والناتجة عن الإستعمار والتدخل الخارجي والكثير من التبعيات، على مدار عقود طويلة وحتى يومنا هذا؛ وهو الحال في موريتانيا أيضاً.  وليس غريباً أن يبقى اليمن والمغرب والسودان ومصر أيضاً من الدول أصحاب النسب العالية في "الأمية"، فهنالك أنظمة وأصحاب سيادة وقرار سياسي وإقتصادي منتفعين جداً من تدني قدرة الشعوب للوصول والحصول على تعليم نوعي يساهم في توسيع مداركهم ووعيهم وصقل قدراتهم على كافة المستويات، تماماً كما هم منتفعين من تحجيم الزراعة والإنتاج الصناعي وغيرها من المجالات المهمة لنماء أية دولة أو شعوب. 

وبنفس الوقت، ليس غريباً أيضاً أن تكون نسبة التعليم عالية لدى الفلسطيين.  فلقد عمل الفلسطينيون بجد وجهد على الإستثمار في مواردهم البشرية كتعويض لكل الخسارات المادية المستمرة من قبل الإحتلال الإسرائيلي منذ ما يقارب 66 عاماً؛ حيث إعتبر الكثيرين منهم أن التعليم هو جزء من المقاومة.  هذا بالإضافة إلى أن هنالك نسبة كبيرة من الفلسطيين تعيش في المهجر وبالتالي فإن فرصهم في الحصول على التعليم أعلى من غيرهم؛ نسبياً. 

وفي محاولة لعمل المقارنات، فلقد نقل الخبر أن معدل الأمية " في دول العالم العربي مجتمعة، يقترب من 20%، وهي نسبة تبلغ ضعف المتوسّط على المستوي الدولي."  رغم أنه في العالم الأول، كما في العالم الثالث، هناك العديد من خريجي المدارس ممن لا يستطيعون القراءاة والكتابة هذا بالإضافة إلى تدني مستوى معارفهم ووعيهم على مستويات عدة.  ففي أمريكا على سبيل المثال: 19% من المتخرجين من المرحلة الثانوية لا يستطيعون القراءة والكتابة.  و 21% مِن مَن وصل سن "الرشد" يقرأون بمستوى طلاب الصف الخامس إبتدائي (19% من إجمالي السكان) هذا بالإضافة إلى أن نسبة "الأمية" في كل الولايات وصلت إلى 14%  http://www.statisticbrain.com/number-of-american-adults-who-cant-read/.   وعليه فإن نسبة "الأمية" في مصر والسودان والمغرب (26%) لا تبعد عن نسبة "الأمية" في أمريكا في حال جمعنا 19% والـ 14% مثلاً.  أما في فرنسا، فهناك حوالي 20% من طلاب المدارس في عمر 15 عاماً لديهم إشكاليات كبيرة في القراءة و 23% في الرياضيات.  http://efareport.wordpress.com/2012/09/22/illiteracy-in-developed-countries-ending-the-taboo
وجديراً بالذكر، حين كنت أحاول الوصول إلى نسب تتعلق بالتعليم و "الأمية" في أوروبا، وجدت العديد من المقالات التي تذكر وتنتقد وجود شح كبير في المعلومات والإحصائيات المتوفرة عن هذا الموضوع؛ وهذا يطرح تساؤل كبير جداً أتمنى ان يتوفر لدى الوقت للبحث فيه بشكل أكبر. 

مجال التعليم أو النظام التعليمي من أهم الأعمدة الأساسية التي يستند عليها المجتمعات.  ولقد أثبتت العديد من الدراسات فشل المنظومات التعليمية السائدة - بأغلبيتها - في العالم الأول والثاني والثالث مع بعض الفروقات الشكلية ربما (على الأقل من وجهة نظري وبناءاً على إطلاعي وقراءاتي).  وعليه، فإن "العلم" و "الجهل" و "الوعي" هم قضايا وهموم عالمية، والقصور الذي يرتبط بالنظام التعليمي مرتبط بأسباب وإشكاليات وتوابع ليست سطحية أبداً وغير مقتصرة فقط على الحكومات والشعوب في العالم الثالث أو في المنطقة العربية. 

سوء - وحتى فشل - "النظم التعليمية السائدة" في العالم هو واقع وحقيقة ليست مفصولة عن الحقائق الأكبر في كل دولة على حدة وفي العالم بشكل عام، فهو يرتبط بشكل مباشر بالعديد من القضايا الأكثر شمولية وفي كافة السياسات العامة على الصعد السياسية والإقتصادية والثقافية.  وهذا بحد ذاته ينتج إشكاليات ضخمة مستمرة ومتجددة تعكس نفسها في مضمون التعليم (المناهج) ومنهجياته بالإضافة إلى سوء إدارته على كافة المستويات؛ وتعكس نفسها في مستوى وصول الخدمة (التعليم) للشعوب وكيفية تقسيم وتوزيع نوعية الخدمة على المجتمعات المختلفة داخل هذه الشعوب أو بمعنى آخر تعكس التفرقة في توزيع كمّ ونوعية الموارد على فئات الشعب.

ومن هنا، فإن الإشارة إلى إرتفاع نسبة "الأمية" لدى السجناء في السجون الأمريكية (60%)، في غير مكانها؛ حيث لا يجوز إستخدامها بشكل علمي إلا لو كانت هناك إثباتات بأرتباط ذلك مع الجرائم التي إرتكبوها.  وبالتالي، هذه الإشارة لا تعني بالضرورة أن عدم قدرتهم على القراءة والكتابة هو ما أدى بهم إلى إرتكاب الجرائم، وإنما بإعتقادي هي الظروف المعيشية الصعبة ونوعية الموارد والفرص التي حصلوا عليها، بالإضافة إلى أسباب موضوعية أخرى ترتبط بكل حالة على حدة.  وهذا رد أيضاً على جملة: " وقد ولّدت هذه المشكلة بدورها، أخرى، طالت الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للمجتمعات العربية، إذ وجدت دراسات أن ثمة علاقة وطيدة بين الأمية من جهة، والفقر والجريمة من جهة أخرى."  حيث تخلط الجملة بشكل غير ذكي على الإطلاق بين بعض المشاكل وتبعياتها ودون التطرق للمسببات الأصلية، أو بالأحرى تغض النظر عنها.  كما وبرأيي فإن الجملة بحد ذاتها سطحية وغير عادلة على الإطلاق للفئات المهمشة والأقل حظاً في مجتمعاتنا العربية (وغيرها) وتعزز الأحكام السائدة دون مبررات علمية واضحة.

لن أدخل في تفاصيل إشكاليات النظم التعليمية السائدة، فهذا موضوع آخر، أتمنى أن أستطيع الكتابة عنه يوماً.  لكن يبقى معلقاً بذهني عدد من الأسئلة المهمة في هذا الموضوع: ما هي "الأمية"؟ هل التعريف السائد (عدم القراءة والكتابة) كافي لأن يعكس الوعي أو الجهل؟  هل "محو الأمية" أهم من "محو الجهل" أو "تطوير الوعي"؟  ما هي المعايير التي تحدد "العلم" و "الوعي" و "الجهل"؟  هل هي "الشهادات المدرسية والجامعية؟ هل هي كم شهادات الورش والدورات؟  ماذا عن الأفعال والمواقف؟  هل تدخل أيضاً في معايير الوعي والعلم؟

في علم الإنسان والإجتماع، تعتبر "الأمية" أحد المواضيع الشائكة جداً.  وعليه، فإن البحث فيها يتطلب الكثير من الوعي الذي يسمح للباحثين النظر للموضوع بشكل أعمق وأكثر شمولية .. فبرأيي الأمية لا ترتبط فقط بالقدرة على القراءة والكتابة بل بماذا نقرأ وعن ماذا نكتب، بنوعية المضمون؛ ترتبط بالمشرّعين لسياسات التعليم، وفي الإداريين والمنفذين الأساسيين؛ ترتبط بمن هم المتلقين الأساسيين، وسهولة وصولهم لها؛ ترتبط بألأدوات والأساليب والمنهجيات التي يتم من خلالها توصيل المعلومة إلى المتلقي الصغير والكبير، الفقير والغني، الذكر والأنثى، المواطن والمهاجر، على حد سواء.  ترتبط بالبيئة العامة التي قد تسمح أو لا تسمح بالتعلم والوعي وبالتطبيق العملي والفكري والثقافي .. ترتبط بالكثير الذي يفوق الإحصائيات والمقارانات بين الأرقام.   

(نشرت هذه المقالة أيضاً في موقع الحياة في 13 سبتمبر 2014 - http://www.alhyat.com/?mod=articles&ID=83118)