السبت، 13 سبتمبر 2014

ما بعد الأرقام والمقارنات ...

تقلقني الإحصائيات دائماً وتثير لدي الكثير من الشكوك حول مبرراتها وكيفية العمل على إخراجها؛ ويقلقني بالتأكيد، إندفاعنا جميعاً لتعميمها دون فحص كافة الجوانب للتأكد من صحتها أو موضوعيتها أو واقعيتها أو حتى إنسانيتها. 

فمن التفاصيل المهمة التي يتوجب معرفتها وتذكّرها عند مراجعة أو الإطلاع على أية دراسـة إحصائية هو أنّ هذه الإحصائيات تُبنى بشكل أساسي على إفتراضات تخص القائمين عليها وآرائهم ومعاييرهم وتعريفاتهم والتي برأيي وإن كان هذا من حقهم بالتأكيد، إلا أنها لا تعني أن إفتراضاتهم أو تعريفاتهم صحيحة بشكل مطلق أو حتى وجوب إعتناقها والموافقة معها من قبل الجميع.  كما وأنّ أغلب الدراسات القائمة على الإحصائيات تُخرج أرقام وإحصائيات تُعَمَم على كل الناس أو الدول أو الظروف .. إلخ، وبالتالي فهي لا تعكس سوى رأي ووجهة نظر من شارك بها.  وكمحصلة، فإن نتائج أغلب الإحصائيات تبقى مجرد أرقام ونسب نتجت بشكل أساسي عبر الأسلوب البحث "الكمي" والعمليات "الحسابية" ويتم ربطها أو إسنادها على أية معلومات نوعية أو تحليلات علمية أو إرتباطات واقعية قد تؤدي إلى إفراز مثل هذه الأرقام والنسب.  أخيراً، أغلب الدراسات الإحصائية التي تشمل مقارنات بين النسب الناتجة من البحث الإحصائي وآخر يخص مجموعة أو دولة أو .. أخرى، هي سطحية إلا لو إنبنت وإرتبطت بشكل واضح بعدد من الأبعاد الموضوعية الأخرى. 

ما أثار حفيظتي لكتابة هذا المقال هو الخبر الذي نُشر في موقع "الحياة" حول نسبة الأمية في الوطن العربي بناءاً على أحدث دراسة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "أليكسو" (http://alhyat.com/?mod=articles&ID=82886).  مبدئياً لدي عتب "الأصدقاء" على موقع "الحياة" لنشر الخبر كما أتى ولعدم وجود رابط للبحث، ولدي تحفظ كبير على ما أتى في الخبر من نتائج وذلك للأسباب التي وضحتُها في الأعلى بالإضافة إلى ما ستحملة السطور التالية.

عموماً، أنا لا أؤمن بأن "الأمية" بتعريفها العلمي المعروف دولياً (عدم القدرة على الكتابة والقراءة) تعني بالضرورة "عدم الوعي" أو "الجهل."  فهنالك العديد من المتعلمين وأصحاب الشهادات الصغرى والكبرى بمستويات متدنية جداً من الوعي والمعرفة والقناعات الحقيقية والأخلاق ومستوى عالي من الجهل؛ هذا لا يعني بأي شكل أنني أروّج لعدم أهمية القراءة والكتابة أو لعدم العمل على محو "الأمية" في مجتمعاتنا العربية وغيرها حول العالم.  لكن برأيي الشخصي والمهني، هذه الأمور (الوعي والقناعات والأخلاق والقيم والإنتماء وغيرهم) أهم بكثير من الشهادات ومن معرفة القراءة والكتابة فقط.  كما وأن نسبة "الأمية" أو عدد القادرين على الكتابة والقراءة في بلد لا تعكس بالضرورة أفضليته أو العكس، وليست هي الأسباب الأهم لإنسنة الإنسان وقيمته وتطوره أو مستوى نماء أي بلد.  

وبالعودة إلى بعض الإحصائيات التي نقلها الخبر أيضاً، فليس غريباً أن يحظى الصومال بالنسبة الأكبر من عدد المواطنين اللذين لا يعرفون القراءة والكتابة، فما يزال الصومال يعاني من الأوضاع السياسية والإقتصادية الصعبة والناتجة عن الإستعمار والتدخل الخارجي والكثير من التبعيات، على مدار عقود طويلة وحتى يومنا هذا؛ وهو الحال في موريتانيا أيضاً.  وليس غريباً أن يبقى اليمن والمغرب والسودان ومصر أيضاً من الدول أصحاب النسب العالية في "الأمية"، فهنالك أنظمة وأصحاب سيادة وقرار سياسي وإقتصادي منتفعين جداً من تدني قدرة الشعوب للوصول والحصول على تعليم نوعي يساهم في توسيع مداركهم ووعيهم وصقل قدراتهم على كافة المستويات، تماماً كما هم منتفعين من تحجيم الزراعة والإنتاج الصناعي وغيرها من المجالات المهمة لنماء أية دولة أو شعوب. 

وبنفس الوقت، ليس غريباً أيضاً أن تكون نسبة التعليم عالية لدى الفلسطيين.  فلقد عمل الفلسطينيون بجد وجهد على الإستثمار في مواردهم البشرية كتعويض لكل الخسارات المادية المستمرة من قبل الإحتلال الإسرائيلي منذ ما يقارب 66 عاماً؛ حيث إعتبر الكثيرين منهم أن التعليم هو جزء من المقاومة.  هذا بالإضافة إلى أن هنالك نسبة كبيرة من الفلسطيين تعيش في المهجر وبالتالي فإن فرصهم في الحصول على التعليم أعلى من غيرهم؛ نسبياً. 

وفي محاولة لعمل المقارنات، فلقد نقل الخبر أن معدل الأمية " في دول العالم العربي مجتمعة، يقترب من 20%، وهي نسبة تبلغ ضعف المتوسّط على المستوي الدولي."  رغم أنه في العالم الأول، كما في العالم الثالث، هناك العديد من خريجي المدارس ممن لا يستطيعون القراءاة والكتابة هذا بالإضافة إلى تدني مستوى معارفهم ووعيهم على مستويات عدة.  ففي أمريكا على سبيل المثال: 19% من المتخرجين من المرحلة الثانوية لا يستطيعون القراءة والكتابة.  و 21% مِن مَن وصل سن "الرشد" يقرأون بمستوى طلاب الصف الخامس إبتدائي (19% من إجمالي السكان) هذا بالإضافة إلى أن نسبة "الأمية" في كل الولايات وصلت إلى 14%  http://www.statisticbrain.com/number-of-american-adults-who-cant-read/.   وعليه فإن نسبة "الأمية" في مصر والسودان والمغرب (26%) لا تبعد عن نسبة "الأمية" في أمريكا في حال جمعنا 19% والـ 14% مثلاً.  أما في فرنسا، فهناك حوالي 20% من طلاب المدارس في عمر 15 عاماً لديهم إشكاليات كبيرة في القراءة و 23% في الرياضيات.  http://efareport.wordpress.com/2012/09/22/illiteracy-in-developed-countries-ending-the-taboo
وجديراً بالذكر، حين كنت أحاول الوصول إلى نسب تتعلق بالتعليم و "الأمية" في أوروبا، وجدت العديد من المقالات التي تذكر وتنتقد وجود شح كبير في المعلومات والإحصائيات المتوفرة عن هذا الموضوع؛ وهذا يطرح تساؤل كبير جداً أتمنى ان يتوفر لدى الوقت للبحث فيه بشكل أكبر. 

مجال التعليم أو النظام التعليمي من أهم الأعمدة الأساسية التي يستند عليها المجتمعات.  ولقد أثبتت العديد من الدراسات فشل المنظومات التعليمية السائدة - بأغلبيتها - في العالم الأول والثاني والثالث مع بعض الفروقات الشكلية ربما (على الأقل من وجهة نظري وبناءاً على إطلاعي وقراءاتي).  وعليه، فإن "العلم" و "الجهل" و "الوعي" هم قضايا وهموم عالمية، والقصور الذي يرتبط بالنظام التعليمي مرتبط بأسباب وإشكاليات وتوابع ليست سطحية أبداً وغير مقتصرة فقط على الحكومات والشعوب في العالم الثالث أو في المنطقة العربية. 

سوء - وحتى فشل - "النظم التعليمية السائدة" في العالم هو واقع وحقيقة ليست مفصولة عن الحقائق الأكبر في كل دولة على حدة وفي العالم بشكل عام، فهو يرتبط بشكل مباشر بالعديد من القضايا الأكثر شمولية وفي كافة السياسات العامة على الصعد السياسية والإقتصادية والثقافية.  وهذا بحد ذاته ينتج إشكاليات ضخمة مستمرة ومتجددة تعكس نفسها في مضمون التعليم (المناهج) ومنهجياته بالإضافة إلى سوء إدارته على كافة المستويات؛ وتعكس نفسها في مستوى وصول الخدمة (التعليم) للشعوب وكيفية تقسيم وتوزيع نوعية الخدمة على المجتمعات المختلفة داخل هذه الشعوب أو بمعنى آخر تعكس التفرقة في توزيع كمّ ونوعية الموارد على فئات الشعب.

ومن هنا، فإن الإشارة إلى إرتفاع نسبة "الأمية" لدى السجناء في السجون الأمريكية (60%)، في غير مكانها؛ حيث لا يجوز إستخدامها بشكل علمي إلا لو كانت هناك إثباتات بأرتباط ذلك مع الجرائم التي إرتكبوها.  وبالتالي، هذه الإشارة لا تعني بالضرورة أن عدم قدرتهم على القراءة والكتابة هو ما أدى بهم إلى إرتكاب الجرائم، وإنما بإعتقادي هي الظروف المعيشية الصعبة ونوعية الموارد والفرص التي حصلوا عليها، بالإضافة إلى أسباب موضوعية أخرى ترتبط بكل حالة على حدة.  وهذا رد أيضاً على جملة: " وقد ولّدت هذه المشكلة بدورها، أخرى، طالت الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للمجتمعات العربية، إذ وجدت دراسات أن ثمة علاقة وطيدة بين الأمية من جهة، والفقر والجريمة من جهة أخرى."  حيث تخلط الجملة بشكل غير ذكي على الإطلاق بين بعض المشاكل وتبعياتها ودون التطرق للمسببات الأصلية، أو بالأحرى تغض النظر عنها.  كما وبرأيي فإن الجملة بحد ذاتها سطحية وغير عادلة على الإطلاق للفئات المهمشة والأقل حظاً في مجتمعاتنا العربية (وغيرها) وتعزز الأحكام السائدة دون مبررات علمية واضحة.

لن أدخل في تفاصيل إشكاليات النظم التعليمية السائدة، فهذا موضوع آخر، أتمنى أن أستطيع الكتابة عنه يوماً.  لكن يبقى معلقاً بذهني عدد من الأسئلة المهمة في هذا الموضوع: ما هي "الأمية"؟ هل التعريف السائد (عدم القراءة والكتابة) كافي لأن يعكس الوعي أو الجهل؟  هل "محو الأمية" أهم من "محو الجهل" أو "تطوير الوعي"؟  ما هي المعايير التي تحدد "العلم" و "الوعي" و "الجهل"؟  هل هي "الشهادات المدرسية والجامعية؟ هل هي كم شهادات الورش والدورات؟  ماذا عن الأفعال والمواقف؟  هل تدخل أيضاً في معايير الوعي والعلم؟

في علم الإنسان والإجتماع، تعتبر "الأمية" أحد المواضيع الشائكة جداً.  وعليه، فإن البحث فيها يتطلب الكثير من الوعي الذي يسمح للباحثين النظر للموضوع بشكل أعمق وأكثر شمولية .. فبرأيي الأمية لا ترتبط فقط بالقدرة على القراءة والكتابة بل بماذا نقرأ وعن ماذا نكتب، بنوعية المضمون؛ ترتبط بالمشرّعين لسياسات التعليم، وفي الإداريين والمنفذين الأساسيين؛ ترتبط بمن هم المتلقين الأساسيين، وسهولة وصولهم لها؛ ترتبط بألأدوات والأساليب والمنهجيات التي يتم من خلالها توصيل المعلومة إلى المتلقي الصغير والكبير، الفقير والغني، الذكر والأنثى، المواطن والمهاجر، على حد سواء.  ترتبط بالبيئة العامة التي قد تسمح أو لا تسمح بالتعلم والوعي وبالتطبيق العملي والفكري والثقافي .. ترتبط بالكثير الذي يفوق الإحصائيات والمقارانات بين الأرقام.   

(نشرت هذه المقالة أيضاً في موقع الحياة في 13 سبتمبر 2014 - http://www.alhyat.com/?mod=articles&ID=83118)